كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة، وبين آية الرخصة الآتِيَة: وهي قوله: {فمن اضطرّ في مخمصة} لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها.
ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله: {حرّمت عليكم الميتة} الآية.
والمناسبة في هذا الاعتراض: هي أنّ الله لمّا حرّم أمورًا كان فعلها من جملة دين الشرك، وهي ما أهِلّ لغير الله به، وما ذبح على النصب، وتحريم الاستقسام بالأزلام، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم، والتقليل من أقواتهم، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم: فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر: وهو ما أهلّ به لِغير الله، وما ذُبح على النُصُب.
والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم، وبمحاسن دينهم وإكماله، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء.
وذُكّروا بالنعمة، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين.
وكان المشركون، زمانًا، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين، ويرجعوا إلى الشرك، كما قال المنافقون {لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا} [المنافقون: 7].
فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية: بشارة للمؤمنين، ونكاية بالمشركين.
وقد روي: أنَّها نزلت يوم فتح مكة، كما رواه الطبري عن مجاهد، والقرطبي عن الضحّاك.
وقيل: نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها.
وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ.
ف {اليوم} يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر، وهو يوم نزول الآية، وهو إن أريد به يوم فتح مكة، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام، وظهر فيه من قوّة الدين، بين ظهراني من بقي على الشرك، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه: التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية، وقوام شؤونهم، وتعارفهم، وفصل نزاعهم، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعًا لبقية آمالهم: من بقاء دين الشرك، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام.
فذلك اليوم على الحقيقة: يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة.
فقد قال أبو سفيان يوم أحد «أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم».
وقال صفوان بن أمية أو أخوه، يوم هوازن، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين: «ألا بطل السحر اليوم».
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير «أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم».
و{اليوم} يجوز أن يراد به يوم معين، جدير بالامتنان بزمانه، ويجوز أن يجعل (اليومَ) بمعنى الآن، أي زمان الحال، الصادق بطائفة من الزمان، رَسخ اليأس، في خلالها، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك، فإنّ العرب يطلقون (اليوم) على زمن الحال، (والأمس) على الماضي، و(الغَد) على المستقبل.
قال زهير:
وأعْلَمُ عِلم اليوممِ والأمسسِ قبلَه ** ولكِنَّنِي عن عِلممِ مَا في غد عَمِي

يريد باليوم زمان الحال، وبالأمس ما مضى، وَبالغد ما يستقبل، ومنه قول زياد الأعجم:
رأيتُك أمسسِ خيرَ بني مَعَدّ ** وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ

وأنت غَدا تزيد الخير خيرًا ** كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس

وفعل {يئس} يتعدّى بـ (مِن) إلى الشيء الذي كان مرجوًّا من قبلُ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول (من) التي هي لتعدية {يئس} على قوله: {دينِكم}، إنّما هو بتقدير مضاف، أي يئسوا من أمر دينكم، يعني الإسلام، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله: هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه.
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله: {فلا تَخشَوْهم} على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين: لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه، ويذهب حماسه، ويقعده عن طلب عدوّه.
وفي الحديث: «ونُصِرْتُ بالرّعْب».
فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم، فقال: {فلا تخشوهم واخشون} أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلًا من آثار انتصارات المسلمين، يومًا فيومًا، وذلك من تأييد الله لهم، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله: {اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم}، وإنّ فريقًا لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئًا لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم.
وقد أفاد قوله: {فلا تخشوهم واخشون} مفاد صيغة الحصر، ولو قيل: فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات: لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود، فلا يحسن طيّ إحداهما.
وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ:
تَسيل على حدّ الظّبَاتتِ نفوسنا ** ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل

ونظيره قوله الآتي {فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون} [المائدة: 44].
{اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا}.
إن كانت آية {اليوم أكملت لكم دينكم} نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} بنحو العامين، كما قال الضحّاك، كانت جملة مستقلّة، ابتدائية، وكان وقوعها في القرآن، عقب التي قبلها، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين، اعتقادًا وتشريعًا، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معًا يومَ الحجّ الأكبر، عام حجّة الوداع، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين.
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يومًا واحدًا، وكانت هذه الجملة تعدادًا لمنّة أخرى، وكان فصلُها عن التي قبلها جاريًا على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ، ولأجل ذلك: أعيد لفظ {اليوم} ليتعلّق بقوله: {أكملت}، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله: {يَئِسَ} فلم يقل: وأكملت لكم دينكم.
والدّين: ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد، والأعمال، والشرائع، والنظم.
وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} في سورة آل عمران (19).
فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد، التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيء} [النحل: 89] وقوله: {لتبيّن للناس ما نزّل إليهم} [النحل: 44] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة، كافيًا في هدي الأمّة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيًا في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون.
ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ.
وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصًا، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية.
وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة.
فما نجده في هذه السورة من الآيات، بعد هذه الآية، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع.
وعن ابن عباس: لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض.
فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم.
قال الشاطبي: القرآن، مع اختصاره، جامع ولا يكون جامعًا إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}، وأنت تعلم: أنّ الصلاة، والزكاة، والجهاد، وأشباه ذلك، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن، إنَّما بيّنتها السُنَّة، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريّات، والحاجيات، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة: وهو السنّة، والإجماع، والقياس، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال: «لَعَن الله والوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله» فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: «لعنتَ كذا وكذا» فذكرَتْه، فقال عبد الله: «وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله»، فقالت المرأة: «لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف، فما وجدتُه»، فقال: «لئن كنتتِ قرأتيه لقد وجدتيه»: قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]. اهـ.
وقال ابن عاشور:
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة، المتلقّين عنه، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتابًا في مرضه قال عمر: حسبنا كتاب الله، فلو أنّ أحدًا قصر نفسه على علم القرآن فوجد {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43] و{آتوا حقّه يوم حصاده} [الأنعام: 141] و{كُتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] و{أتِمّوا الحجّ والعمرة لله} [البقرة: 196]، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة، وأيضًا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله: {لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83].
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدئ ضعيفًا ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر، وهو في ذلك كلّه دين، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة، ومعظم أهل المدينة، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة، وآدابها، وقوانين تعاملها، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين، وغلب الإسلام على بلاد العرب، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ، فأصبح مرهوبًا بأسُه، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين: بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه، وذلك تَبيَّن واضحًا يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية.